الثقافة.. ميراث عالمي!
بعد انهيار الامبراطورية الرومانية، مرّ العالم في مرحلة مظلمة كادت تقضي على الانتصارات العظيمة التي احرزتها البشرية في ميادين العلم والفن خلال آلاف السنين، لولا سطوع فجر الحضارة العربية التي امتدت الى الهند شرقاً واسبانيا غرباً، وعمل العلماء والادباء العرب على نقل ذلك التراث الفكري الثمين الى لغتهم ثم اعادوه الو اوروبا اوائل عصر النهضة، بعد اضافة ثمار اكتشافاتهم وتجاربهم الفنية. فأخذ الغرب عن كتب الخوارزمي الجبر والنظام العشري وكان للتجارب الكيميائية التي قام بها جابر بن حيّان والرازي ومن جاء بعدهما للاكتشافات الطبية التي توصل اليها الرازي وغيره من اطباء العرب وبنظريات ابن الهيثم في علم الضوء ولأبحاث ابن رشد الفلسفيّة وابن خلدون الاجتماعية والمعلومات التي دونها عشرات الرحّالة والجغرافيين العرب، اثر كبير في البحث الغربي، بالاضافة الى ما كان من اثر لنصوص المعرفة القديمة التي ترجمها العرب وصانوها من الضياع.
لقد كان الغرب اثناء ازدهار الحضارة العربية غارقاً في ظلمات القرون الوسطى، فكان اتصاله بهذه الحضارة وملامسته اهلها عن طريق الفتوحات والرحلات والعلاقات التجارية ثم عن طريق الحروب الصليبية، عاملاً من العوامل التي ادّت الى يقظته، واقباله على المعرفة والتجربة العلمية اقبالاً لم يعرفه الانسان في عهد من عهوده.
في تلك المرحلة كان النظام الاقطاعي قد حلّ في اوروبا محل قطاع العبودية، فساعد نشوء المدن وتكوّن طبقة التجار على ابدال الحكم الاقطاعي بالحكم البورجوازي بعد نضال شاق وطويل. وقدّم هذا النظام أول عهده على الاخص خدمات مهمة للمعرفة، ووضع اسس المدنية الغربية الحديثة. فأخذ الغرب يتحرّر شيئاً فشيئاً من السحر والتنجيم والاوهام الغبية التي حلّت خلال القرون الوسطى محل العلوم، وتخلّص من محاكم التفتيش التي كانت تحارب البحث العلمي بدعوى الهرطقة والالحاد.
ومع بداية القرن السابع عشر بدأت دراسات الآلات والعمليات الميكانيكية التي كان يعتبرها الاشراف اعمالاً منحطّة ويراها كفرا شنيعاً. فكان ذلك اعظم اختراع قام به الانسان هو اختراع الزراعة، اذ خطا بالتقدم البشري خطوة عظيمة الى الامام ووضع اسس العلم القائم على التفكير النظري والتجربة معاً، ومنذ ذلك التاريخ بدأ اكتشاف العلاقات بين الظواهر المادية وربط هذه العلاقات عن طريق العلّة والمعلول، وتلخيصها كقوانين للطبيعة.
لقد وطّد الغرب المعرفة البشريّة على هذا الأساس في ترقية الآداب والفنون عامة، ولكن من الواضح ان هذا المجهول لا يقتصر على شعب دون آخر، كما ان نشوء المعرفة وتطوّر الثقافة لم تعرفهما امة واحدة او مرحلة معيّنة، بل هما سلسلة من الاكتشافات والاختراعات الكبيرة والصغيرة منذ الانسان البدائي حتى انسان القرن 21 مخترع الصواريخ ومكتشف الطاقة الذريّة، اكتشافات واختراعات متصلة بحيث لا نستطيع ان نتصوّر امكان الوصول الى اعظم اختراع في الحاضر لو لم يتوصل اسلافنا منذ عشرات الآلاف من السنين الى ما قدموه للثقافة البشريّة من خدمات. وان الثقافة ميراث عالمي تراكم من جهد الانسان في سبيل التقدّم ومن كفاحه للرقي والتغلّب على التحديّات.
جهاد قلعجي