العبثية الخصبة
لا! لا يمكن للبنان، وهو من قاد التاريخ الى أن يُكتب، لا لشيء الّا لكي يكون عبرة الحاضر والمستقبل، ان يشهد نهاية دوره على يد عبثية من انهى تدميره… من اجل كرسي.
لقد اراد المسيحيون، لا سيّما الموارنة منهم، مذ توّلدت في عقلهم فكرة انشاء كيان مستقل، ان يكون هذا الكيان ليس فقط لهم ولغيرهم ممّن لا يشاركونهم الايمان الديني عينه انّما مآسي التاريخ عينها، بل مساحة ارتقاء، يجعل من لبنان وطن اشعاعات الحريّة لشرقٍ غارقٍ في تصادم الظلاميات منذ جَعَل الذمية انتماء، ووطن محاور الحق لغربٍ غارقٍ في تصادم النسبيات منذ جَعَل الشكَّ مذهباً.
وكان ذاك اللبنان الذي تباهى الشرق أنّه شهادته للعالم، وتباهى به الغرب أنّه شاهده للزمان.
امّا أن يبتلي بزويعيميّين فاقوا كل مخيّلة بمستوى العبثية لديهم الخارجة عن أيّ مألوف في التعاطي السياسي، وصولاً الى دفع التوازن الدقيق بين المكوّنات اللبنانية نحو شتّى الأخطار، فهذا ليس بأغبى مراهقات الفارغين ممّن استطابوا التمترس في اعلى المناصب وتوريثها، انّما أحقر انواع العبثية.
هي العبثية الخصبة التي اقصت الكفايات لتترّبع على الجهل، وقضت على العقل لتنمو على الغرائز، ودمرّت مقوّمات وطن عمره من عمر النضال في التاريخ، لتستفرد بالغاء رابط الصلابة بين الحق والحرية.
“تعرفون الحق، والحق يحرّركم!”
فكيف اذا عُمِّد الباطل حقاً ؟
لا ارتياب في الأدلّة: انهيار الوعي في القيادة، وفقدان الارادة في القرار، والسقوط في جهنم، بعدما رفع الفكر المسيحي لبنان الذي ارساه الى مستوى “قلب الله”، على ما تعني كلمة “لب نون” في الآرامية.
امّا الجواب، ففي احدى اعظم روايات القرن العشرين لفرانز كافكا،الحاملة عنوان: “القصر”، والصادرة غير مكتملة العام 1926، عن مغامرات عبثية لمسّاحٍ اتى ليدير قصراً، فأصطدم مع الجميع، لانقطاعه عن اي تواصل مع شعب ذاك القصر… وغرق مع الجميع في نقيض الحرية.
غدي م. نصر