روبير غانم… وأوصد باب هيكله!
طوى السنين في جعبة العمر مع آلاف من صفحات الفكر الملوّنة بالفلسفة، المُطرّزة بالشعر، المُزيّنة بالنثر، النّابضة بالمقالات.. وأطفأ سراجه على هذا الكوكب لينتقل إلى النور المطلق، إلى حيث تاقت نفسه، إلى الكون الأرحب، حيث لا وجع ولا ظلم ولا أنين ولا عطش ولا جوع.. إلى حيث “مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ”، حيث الحياة الأبديّة مع الحق والخير والجمال.. مع الحبّ المطلق الكامل، مع خالق هذا الكون الذي انتمى إليه روبير غانم، والذي شغلَ فكره وملأه بأسئلة ومحاولاتِ أجوبة يحوكها على نولِ فلسفته الكونيّة، بأنامل الإبداع اللغويّ، في صومعة الجمال، على جبل تجلّيات الرّوح!
هو المُعلّم المُلهِم.. كبيرٌ، سليل الكبار.. من عائلة أدبية هي مفخرَة بسكنتا ولبنان.. وسائر المشرق وأبْعَد!
في هيكله الأدبيّ الإنسانيّ الذي بناه بعرق جبينه، طيلة أيّام رحلته ههنا، بين باب الولادات الجديدة ومِحراب التضحيات الجَزيلة، أشعلَ شموع الكلمة المُتوهّجة في قدس أقداس العطاءات وجمالاته..
صائغٌ هو، بين ذَهَب الأفكارِ وألماس التعبير، ترتفع أبراجُ أدبه مُرَصَّعَة بجَواهر جوارِح هذا السّائح السّارح بين أرض وفضاء يغزوه بالكلمة!
يختال ملكاً في مملكته.. وعلى جنبات الطّريق وأرصفة الشوارع يتوهُ منتحلو صفة الشاعر والصحافيّ والأديب والمفكّر والمحلّل والناقد.. والسّياسيّ! فيما هو يتمشّى في حديقة مملكته، يزرع حبات قمحه في تراب يزيده خصوبة من عذبِ سلسبيلِ مياه إبداعه… شَرشَحَ أهلَ الانتحال.. اقتحمَ حُصون المُحال.. تَلذّذ بشقاء الارتحال.. بين قصيدة ومقال.. بين بيادر وغِلال وسِلال ملأها بكدّ وجهاد واستبسال.. دونما استسهال وإهمال!
شقعَ مداميك فلسفته المُسَمّاة كونيّة، وأعلى بنيان الصّرح الخالد، على قطعة أرضٍ مُطلّة على رِحاب القوافي وبساتين الأوزان وكُرومِ الكلمات في جبل الجَمال، في فضاء النقاء.. في محافظة جبل الخلود.. تلفحُه شمس الحقيقة!
هنيئاً لروبير غانم المُفكّر أرضه الغنّاء هذه المُفرَزة المُسجّلة باسمه في الدّوائر العقاريّة الفكريّة والتي أورثها للأجيال فصارت ملك الكلّ.. روبير غانم اللبناني اللبناني.. المسيحي المسيحيّ.. المارونيّ الانطاكيّ الخلقيدونيّ (وأستذكرُ هذا التعبير الذي أضحكنا العام المُنصرم ضحكاً من أعماق القلب)… وأستعرضُ في ذاكرتي أحلى لحظات النّهفات والنّكات والمزاح الذي كان يبكينا من الضّحك مع الزملاء في مكاتب “الدّبور”!
أوصدَ المعلّمُ باب هيكله في وجه الإغراءات والإملاءات.. لا المساومة استطاعت إليه سبيلاً ولا لوى ذراعه تهديدٌ أو وعيد.. فهو الشامخ الصّامد الصّلب العنيد. عن خط الحقّ لا يَحيد. فن البلاغة يُتقن ويُجيد. بين أنامله قلم صنديد. عهدُ فلسفته.. عهدٌ جديد.
فوق.. في حضرة الله والملائكة والقدّيسين.. هنيئاً لك فرح سيّدك أيها الزّميل الصّديق روبير عبدالله غانم..
هنيئاً لهذه الأرض التي انتقلتَ منها، فرحَ الكلمة التي أورثتناها والتي ستظلّ محفورة في صفحات التاريخ والتراث والذاكرة.. وفي وجدان “الدّبور” حيث كتبنا معاً، وضحكنا معاً، وواجهنا معاً، وتحدّينا معاً، وناضلنا معاً في زمن الخيانة والاستسلام والإذعان والخضوع والتخاذل..
سيمون حبيب صفير